-->

أغراض الشعر العربي في عصر الضعف

 أغراض الشعر العربي في عصر الضعف

لقد ولع الشعراء في آخر العهد التركي بالتاريخ الشعري، وأنهم ا
تخذوا ذلك رياضة فنية يوجبونها على أنفسهم، كما انتشر التقريظ (مدح الأحياء)، والشعر التعليمي، وجفاف الصورة والخيال الفني وهذه نماذج تؤكد ما نقول:
قال سيد علي الدرويش في قصيدة إلى محمد علي باشا، يؤرخ لمجيء الجراد إلى مصر في عام شهد فيه موت كثير من الأبقار:
ياصاحِ ما هذا الخبر    قال: الجرادُ هُنا ظهَرْ
قلتُ: الجراد! فقال: إي    تَدرِي الجراد إذَا ابتَدَرْ؟
قلتُ: استعذ بالله! قال:    وهل من المقضي مَفَرْ؟
ما كان قَطُّ بِـخَاطِرٍ    في خاطرِي هذا الخبَرْ
جاءَ الجـرادُ كأنَّه    يتلُو على البقرِ السُّوَرْ
أو أنَّ أروَاحَ البَها    ئِمِ أُلبِسَت تْلكَ الصُّوَر
إلى أن قال مؤرخًا تاريخ وصول الجراد وموت البقر:
أرَّختُهُ وَصَلَ الجرَادُ    لمصرَ فِي عَامِ البَقَر
وإذا كانت الأغراض الراقية من الشعر كالحماسة والفخر والهجاء قد تراجعت وضعفت في هذا العصر، فقد برزت إلى الواجهة أغراض شعرية بدائية كالمعارضات، والاعتذار، والتهنئة والتقريظ، والعتاب، ويمكن أن نشير إلى بعضها بالنماذج التالية:
المعارضات: وهي أن ينظم الشاعر معارضًا شاعرًا آخر ويقلده في الغرض والوزن والمعجم والإيقاع. ومن نماذجها يمكن أن نمثل بهذه القصة: حاول أحد الشعراء احتقار مدينة «بورين» [في فلسطين] بحضرة الحسن التبريزي فمنعه هذا الأخير وردَّ عليه مُشيدًا بقرية «بورين»:
بورينُ طولي على الآفاق وافْتخري على الممالك منْ شأمٍ ومن يَمنِ
وكيفَ لا تَفْخرينَ الأرض قاطبةً بالفاضل المقْتدى من فعِلِه الحَسَنِ
ولما علم «الحسن البوريني» (ت1615م) بالحادثة ردَّ معروف أستاذه وأشاد ببلدة «تبـريز»:
تبريزُ طولي على البلدان وابْتهجي بعـالمٍ فـاقَ كُلَّ الناسِ تِبْريـزا
فخْرُ الورى أسَدُ الدينِ الذي سَعِدَتْ أيامُـهُ فَحَسِبْنا الكُـلَّ نيـروزا
(النيروز أو النوروز: رأس السنة الفارسية، ويوافق هذا اليوم الأول من شهر مارس في التقويم الميلادي)
أما الاعتذار: فقد روي أنَّ الشيخ أحمد بن أحمد الطيبـي وعد الشاعر حسن البورينـي بشيء ولم ينجزه، فقال معتذرًا:
يا سيِّدي لَسْتُ والرَّحْمنِ أنساكا فإنَّ في خاطري الوَلْهانِ مَثْواكا
وَلَمْ أكنْ تاركاً ما قدْ وعدت به فكيفَ وَهو سبيلٌ لي للقياكا 
فاسمحْ فَديْتُكَ مِنْ خِلٍّ ألوذُ به ولا تكنْ حاقداً حاشاكَ حاشاكَ
وأمَّا شعر التهنئة فقد كان في مجمله سخيفًا متكلَّفا ومرتبطًا بأحداث عادية، ويمكن أن نورده مثالا له ما قاله (محمد بن قاسم الحلبـيّ) في تهنئة صديق بـختان نجلٍ له:
أعلاَّمة الوقتِ مَولى الموالي  وقُـرّة عينِ الـعُلا والكَمالِ
فبُشرى لكم بالختانِ الذي   بِه لبِس الـمجدُ ثوبَ الجَمالِ
أمَّا شعر الألغاز والمعميات، فقد أبدع فيه كثير من الشعراء باعتباره غرضًا ترفيهيا وتثقيفيا في الآن نفسه، وخلاصته أن يكون الشعر في قالب لغز أو ما يعرف اليوم بـ «الفزُّورة»، ومثاله قول حسين بن أحمد الزيات ملغزا في نبات «الشعيـر»:
ما اسْمُ شيءٍ مِنَ النَّباتِ إذا ما زالَ حَرْفٌ مِـنْهُ غدا حَيوانا
وبتَصحيفِ بَعْضِهِ فـهو نارٌ وتُـرَوّي مِنْ بَعْضِهِ الظَّـمْآنا
حساب الـجُمَّل: جعل لكلِّ حرف من حروف العربية وفق الترتيب الأبجدي قيمة عددية محدَّدة، فالألف مثلا يعادل الرقم 1، واللام 30، والقاف 100، والضاد 800. فإذا جمعت حروفا بعينها في بيت شعر فإنك تستخرج قيمة عددية محددة، وكانت هذه الطريقة تتخذ للتأريخ لأحداث معينة، والتسلية وإظهار القدرة على التلاعب بالحروف والأرقام، ومن أمثلة هذا النوع من الشعر ما قاله محمد بن يوسف الكريميّ يؤرخ وفاة الشاعر نجم الدين الغزِّي:
لَمّا لـجنَّات العُلا   شَيْخ الشُّيوخ انْتقلا
يا نجمَ دينِ الله ِمِنْ   أُفـقِ دَمْشَقٍ أفـلا
فجعل تأريخ الوفاة في البيت الأخير وهو 1061هـ وهو مجموع ما تساويه حروف البيت الأخير بحساب الجُمَّل.
شعر قهوة البن:
ظهرت في العصر العثماني أطعمة وأشربه كثيرة، وكان من أهم تلك الأشربة شراب قهوة البن. انتشرت قهوة البن وشاعت مشرقا ومغربا، وأقيمت لشربها بيوتٌ خاصة عرفت باسم "القهوة" أو "بيوت القهوة" وأصبح البن موضوعا من موضوعات الثقافة في العصر العثماني؛ مدحها كثير من الشعراء وتغزلوا بها، وحببوها إلى نفوس الناس بصور شتى.
كما فاضل الشعراء بين القهوة والشاي، ووصفوا أدوات شربها أو ما يضاف إليها من مواد عطرية مثل: القرنفل، والهال، والمسك، والعود، وماء الزهر...
ومما قيل في شرب القهوة، قول الشاعر محمد ماماي الرّومي على لسان القهوة تتغزل بنفسها:
أنا الـمعشوقَةُ السَّمْرا أُجْلى في الفَناجيـنِ
وعُودُ الهند لي طيبٌ، وذِكري شاعَ في الصّين
أما ما قيل في الشعر الصوفي والزهد فهو أغلب شعر ذلك العهد؛ فهذا أحمد بن عثمان الشرنوبي المصري (ت1586م) يصف ما ينبغي أن يكون عليه الزاهد:
أصولُ طريقِ القوم أهلِ الحقيقة    هُداةُ الورى المهدِينَ مِن خَير مِلَّةِ
طهارةُ أنفَاسٍ وَصدقُ مَوَدَّةٍ    وَحِذقٌ وآدابٌ وتَجريدُ هِـمَّةِ
وذَوقٌ وشَوقٌ والحضورُ بقلبه    وفَطمُ مُرادِ النفسِ عن كُلِّ شَهوَةِ
ويَلزِم لَبْسَ الصُّوفِ فهُو شِعَارُ مَن    تَلَقَّبَ بالصُّـوفيِّ بَيـنَ الخَلِيقَةِ
ويَعتَزِل الخَلْقَ الجميعَ وَفِعْلَهُم    كَذَاكَ وُلاَةُ الأَمْرِ في دَارِ دُنْيَةِ
ولم يعدم شعراء عصر الضعف الأدبي أن يكون من بينهم من برق شعرُه وتخلَّص في بعضه من قيود الصناعة اللفظية، وسطحية اللغة وسوقيَّتها، ومن بين هؤلاء الشعراء يطالعنا من عصر المماليك اسم ابن الوردي (ت 749هـ)، وهو شاعرٌ أديب مؤرِّخ وفقيه، ومن أشهر شعره لاميتُه في النصح وتضمُّ 77 بيتًا، ومطلعها:
اعتزلْ ذكرَ الأغاني والغـزلْ    وقلِ الفصلَ وجانبْ مَنْ هزلْ
ودعِ الذكرى لأيامِ الصِّـبا    فـلأيامِ الصِّـبا نـجمٌ أفـلْ
كما يطالعنا قبله اسم شرف الدين البوصيري (ت 1296م) المشهور بمدائحه النبوية وعلى رأسها البردة التي مطلعها:
أمِنْ تَذَكُّرِ جِيـران بِـذِي سَلَمٍ مَزَجْتَ دَمْعاً جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ
أمْ هبَّتِ الريحُ من تلقاءِ كاظمةٍ وأوْمَضَ البَرْقُ في الظلْماءِ مِنْ إضَمِ
(...) أَيَحْسَبُ الصَّبُّ أنَّ الحُبَّ مُنْكتِمٌ ما بَيْنَ مُنْسَـجِمٍ منهُ ومُضْـطَرِمِ
لولاَ الهَوَى لَمْ تُرِقْ دَمْعَاً عَلَى طَلَلٍ ولا أَرِقْتَ لِذِكِـرِ البَـانِ والعَلَمِ
يا لائِمِي في الهَوَى العُذْرِيِّ مَعْذِرَةً مِنِّي إليكَ ولو أَنْصَفْتَ لَمْ تَلُمِ
(...) مُحَمَّدُ سَيِّدَ الكَوْنَيْنِ والثَّقَلَيْنِ والفَرِيقَيْنِ مِنْ عُرْبٍ ومِنْ عَجَمِ
نَبِيُّـنَا الآمِرُ النَّاهِي فلاَ أَحَـدٌ أبَّـرَّ فِي قَوْلِ لا مِـنْهُ وَلا نَـعَمِ
دَعا إلى اللهِ فالمُسْتَـمْسِكُونَ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بِحَبْلٍ غيرِ مُنْفَـصِمِ
وَكلُّـهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ غَرْفاً مِنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفاً مِنَ الدِّيَمِ
وقد قلِّدت هذه القصيدة وشرحت مرارًا، وتُرجمت إلى لغات عدَّة منها التركية والهندية والفارسية والفرنسية والألمانية والإنجليزية. كما له في الموضوع عينِه الهمزيَّة التي تضمُّ 457 بيتا، ومنها:
كيف ترقَى رُقِيَّك الأَنبياءُ       يا سماءً ما طاوَلَـتْها سماءُ
لَمْ يُساوُوك في عُلاكَ وَقَدْ حا       لَ سناً مِنك دونَهم وسَناءُ
إنّما مَثَّلُوا صِفاتِـك للـنا       س كما مثَّلَ النجومَ الماءُ
أنتَ مِصباحُ كلِّ فضلٍ فما تَصـ       دُرُ إلا عن ضوئِكَ الأَضواءُ
(...) ومُحَيـَّا كالشمسِ منك مضيءٌ أسفرَتْ عنه ليلـةٌ غـرَّاءُ
ليلةُ المولدِ الذي كان للديـ ـن ِ سرورٌ بيومه وازدِهاءُ 
وتوالَت بشرى الهواتف أنْ قد وُلِدَ الـمصطفى وحَقَ الهناءُ
وتمتاز المدائح النبوية عند البوصيري بالرصانة والجزالة وحسن استعمال البديع، ولكنه في ما سوى هذا الغرض يجاري شعراء عصره، فينظم في القول الهزيل، ولا يُحجم أمام الألفاظ العامية والمولَّدة.
ومن أمارات الضعف الأدبي في ذلك العهد أنَّ بردة البوصيري عُدَّت جوهرة بين حبات الرمل، فتجاوزت شروحها المكتوبة خمسين شرحًا، منها ما هو محلَّى بماء الذهب، وقد بلغت من التقديس أن صار الناس يتدارسونها في البيوت والمساجد كالقرآن، بمناسبة أو بغير مناسبة. وقد زعم بعض شرَّاحها آنذاك أنَّ لكلِّ بيت من أبياتها فائدة؛ فبعضها أمانٌ من الفقر، وبعضها أمانٌ من الطاعون، وأنَّها تُقرأ لتفريج الشدائد، وتيسير كل أمر عسير..!!

المشاركات ذات الصلة

اشترك في آخر تحديثات المقالات عبر البريد الإلكتروني:

0 الرد على " أغراض الشعر العربي في عصر الضعف"

إعلان أسفل عنوان المشاركة

إعلان وسط المشاركات 1

إعلان وسط المشاركات اسفل قليلا 2

إعلان أسفل المشاركات